الاحتراق الدراسي للأطفال الموهوبين: حين يتحول التفوق إلى عبء ثقيل

الاحتراق الدراسي للأطفال الموهوبين

يظن الكثيرون أن الأطفال الموهوبين محصنين ضد الفشل أو الإرهاق، لكن الواقع يؤكد أن ظاهرة الاحتراق الدراسي للأطفال الموهوبين تزداد انتشارًا، حاملةً وراءها معاناة نفسية عميقة. فالسعي الدائم نحو التفوق، والدرجات المرتفعة، والتوقعات المستمرة، تخلق عبئًا هائلاً قد يقود في النهاية إلى الانهيار.

لقد عانيت من هذه التجربة شخصيًا. منذ سنواتي الدراسية الأولى، كنت دائمًا في الصفوف المتقدمة، ألتحق بأصعب المساقات، أحقق أعلى العلامات، وأتلقى إعجاب وتقدير الجميع. كنت أحب التعلم حقًا، لكنني أصبحت مدمنًا على إحساس "الإنجاز الأكاديمي"، لدرجة أنني ربطت قيمتي كإنسان بدرجاتي.

وفي سنتي الجامعية الثانية، بدأ كل شيء ينهار. لم أعد قادرًا على التركيز، شعرت وكأن عقلي مغمور تحت الماء، عاجز عن استيعاب أي معلومات جديدة. أصبح فهم أبسط المفاهيم يستغرق وقتًا أطول. كنت أبذل جهدًا مضاعفًا دون تحقيق نتائج ملموسة. لم أكن أفشل بشكل صريح، لكنني لم أعد ذلك المتفوق، وهذا كان يؤلمني بصمت. بدأت أشك في نفسي وأتساءل: "هل أصبحت نسخة مشوهة من ذاتي السابقة؟"

لاحقًا، أدركت أن ما أمرّ به يُعرف باسم الاحتراق الدراسي، وتحديدًا الاحتراق الدراسي للأطفال الموهوبين. وهي حالة من الإرهاق العاطفي والذهني، يرافقها انخفاض في الإنجاز وفقدان للهوية الشخصية. يعاني منها العديد من الطلاب الذين بدأوا مسيرتهم التعليمية بمستويات متقدمة، لكنهم لم يستطيعوا الحفاظ على نفس الوتيرة العالية مع مرور الزمن.

التحدي لا يكمن فقط في تراجع الأداء الدراسي، بل في الصورة الذهنية التي تشكلت عن أنفسنا منذ الطفولة. كنا نُلقب بـ "المتفوق"، "الذكي"، "الطالب المثالي"، وكأننا مضطرون للتميز دائمًا. فأي خطأ بسيط، أو علامة أقل من المتوقع، بدا كفشل ذريع.

منذ صغري، كانت كل إشادة أو ملاحظة تُركز على تفوقي، مما خلق داخلي نظامًا للمكافآت قائمًا على الكمال. أصبحت مهووسًا بالإنجاز، لدرجة أن أي إنجاز أقل من المثالي كان يشعرني بالذنب. وهكذا، كانت العثرة الأولى كافية لإطلاق تراكمات سنوات من الضغط النفسي.

حتى اليوم، لا يزال الطفل الموهوب بداخلي يخشى أن يُنسى، يخاف أن يصبح غير مرئي إن لم يكن "الأفضل". الاحتراق الدراسي ليس ضعفًا، بل نتيجة حتمية لتوقعات غير واقعية ومجتمع يربط قيمة الإنسان بإنجازه فقط.

لسنا وحدنا في هذه المعاناة. تشير الأبحاث إلى أن معدلات الاحتراق الدراسي تتصاعد بين طلاب الجامعات، خاصة بسبب السعي نحو المثالية غير الصحية التي يتبناها الكثيرون. وهذا يستدعي حلولاً مزدوجة:

أولاً: التغيير الداخلي

الاحتراق الدراسي للأطفال الموهوبين

يجب إعادة تعريف مفهوم "الموهوب". أن تكون موهوبًا لا يعني أن تكون كاملاً طوال الوقت. لا بأس في أن تأخذ قسطًا من الراحة، أن تخطئ أحيانًا، أن تقول "لقد تعبت". الموهبة لا تُقاس بسجل الدرجات، بل بالمرونة، والنمو، والقدرة على النهوض بعد السقوط.

ثانيًا: التغيير المجتمعي

ينبغي للمدارس والمعلمين تخفيف الضغط على الأطفال الموهوبين. لا يجب أن تقترن المديح دائمًا بالعلامات الكاملة، بل بالجهد، والنية، والتقدم التدريجي. كما حان الوقت لأن تعيد الجامعات النظر في معايير القبول التي تعتمد بشكل مفرط على الاختبارات الموحدة، التي لا تعكس بالضرورة الذكاء أو الموهبة الحقيقية.

رغم أن بعض المدارس بدأت بتطبيق "أيام للصحة النفسية"، إلا أن مواجهة الاحتراق الدراسي للأطفال الموهوبين تحتاج إلى ما هو أعمق من ذلك. نحن بحاجة لثقافة جديدة، تحترم الإنسان كما هو، بعيدًا عن سلم التفوق الأكاديمي.

أيها الأطفال الموهوبون، تذكروا دائمًا: لستم مجرد درجات. أنتم موهوبون حتى لو لم تحافظوا على الامتياز. أنتم تستحقون الحب والتقدير، بغض النظر عن معدلاتكم أو إنجازاتكم الأكاديمية.


تعليقات